ماذا لو أخبرتكم عن قاعات دراسية في صفوف المرحلة الأساسية والثانوية يزيد عدد التلاميذ فيها عن مائة وقد يصل إلى 150 تلميذاً، أكنُتم متخيلين للمشهد ؟!! ماذا لو أخبرتكم بأن نسبة التلاميذ مقابل المعلم تصل إلى 500 وأحياناً إلى 1000 في بعض المدارس الكبيرة!!! لن تكون مثل هذه المعلومات مستغربة عندما يقرؤها بعض المتابعين من اليمن السعيد، ولكنها ربما تكون معلومات صادمة بالنسبة لكثير من القُرّاء من بلدان أخرى. والسؤال هنا : هل يمكن للمعلم أن يراعي الفروق الفردية التي يدعو التربويون، وعلماء النفس والفلاسفة لمراعاتها ؟ وهل يستطيع المعلم أن يفرز تلاميذه وفقاً لذكاءاتهم ومستوياتهم العقلية وخصائصهم الشخصية ؟!!
يتحمس البعض فيقول : إن الكثير من التلاميذ حققوا تَميزاً ملحوظاً في ظل الكثافة الطلابية المشار إليها. هذا القول صحيح ولا يجافي الحقيقة، فقد خضتُ التجربة بنفسي لسنوات عديدة كمعلم لتلاميذ المرحلة الثانوية، ولا أنسى إحدى الشُّعب في المدرسة والتي كانت تضم 170 طالباً محشورين كسمك السردين، ويتخذون من ظهور بعضهم طاولات يستندون عليها لكتابة بعض ما يتلقونه من المعلمين، ورغم ذلك فقد كُنا نحتفل سنوياً بتربّع طلابنا في ثانوية عبدالناصر بالعاصمة صنعاء على عرش المراتب الأولى من أوائل الجمهوية .. وللقارئ أن يسأل: أين المشكلة إذاً ؟!!!
إن تحقيق بعض الطلاب تميزاً مقارنة بزملائهم ليس بمستغرب، فالطالب المتميز في الحفظ والممتلك لبعض القدرات العقلية التي تفوق أقرانه يمكن أن يحقق التميُّز ولو لم يلتحق بقاعات الدراسة، أو بمعنى آخر فإن المدرسة لم تكن هي السبب المباشر في تميزه. وهذا لا يعني بأننا نُنكر دور المدرسة الجيدة أو المعلم المتميز في تهيئة الظروف المساعدة للتفوق. وعلى كل حال، فحديثنا هنا ليس على التفوق الذي قد يُولَد من رحم المعاناة، وقد ينبتُ في أشدّ البيئات قسوة، ولكن الحديث عن الفروق الفردية، وهل يمكن للتعليم التقليدي مراعاتها أم لا .
الفروق الفردية هي الخصائص الشخصية للفرد التي تؤثر على كيفية تعلمه، فهى بمثابة تفسيرات للاختلافات في التعلم والأداء، ومفهوم الفروق الفردية يشير أيضاً إلى حجم ونوع الاختلافات بين الأفراد في بعض الصفات النفسية المهمة، والخصائص الشخصية والمكونات المعرفية والعاطفية. لا شك بأن دراسة هذه الفروق يساعد المعلمين في تصميم تعليم يُلبي احتياجات كل متعلم على نحو أفضل، ويترتب على إهمال مهارة التعامل مع الفروق الفردية فشلٌ في تحقيق الأهداف الدراسية، وتأخرٌ في مستوى التلاميذ وإحباط للمعلمين وأولياء الأمور. وتنشأ الفروق الفردية من : الوراثة ، البيئة ، العمر ، اختلاف السمات الشخصية ، الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وغيرها. ويمكن الإشارة إلى العديد من الاختلافات بين المتعلمين، والتي تُعد بمثابة بعض الفروق الفردية، ومنها :
- اختلافات جسدية ( طول- حجم – لون ..)
- نسبة الذكاء والقدرات العقلية والحركية
- اختلافات جنسية ( ذكور -إناث)
- اختلافات عاطفية
- اختلافات اجتماعية
قاعة الدرس تضم متعلمين مختلفين في صفاتهم وعقلياتهم ومستوياتهم الاجتماعية والعاطفية. ففي قاعة الدرس يجد المعلمُ من التلاميذ: الطويل والقصير، والنحيف والسمين، والفقير والغني، والأبيض والأسمر، والكبير في العمر والأصغر عمراً، وسيواجه المعلم تلاميذ مختلفين في شخصياتهم واهتماماتهم ومشكلاتهم وبيئاتهم، وذكائهم وخلفياتهم الدينية أو المذهبية والقبلية أو العشائرية كما أنه سيواجه أنماطاً من المتعلمين، كالمتعلم السمعي، البصري ، الحسي ، الحركي، واللفظي … هل نعتقد بأن المعلم سينجح في التعامل مع الأعداد الكبيرة وفقاً لهذه المتغيرات والاختلافات ؟!!!
نحن نمارس في حق أنفسنا والجيل خداعاً عميقاً حينما نحاول الاقتناع أو الرضى بالمظاهر البراقة والخادعة ونغفل عن الحقيقة المرة ، وقد قيل : الحقيقة المُرَّة خيرٌ ألف مرّة من الوهم المريح . ومن وجهة نظري فإن الذي يعترف بالحقيقة المُرَّة، ويحاول تجاوز الوضع السلبي خيرٌ من الذي يغترُّ بما يحققه من مظاهر خادعة ، فالشعور بالمشكلة هي المقدمة المنطقية للعثور على الحل!!
وهنا، فإنني أتوجه بسؤال إلى كل تربوي أو مهتم بالعملية التعليمية : ألا يُحشر جميع التلاميذ في قاعة درس واحدة بناءً على أنهم في الصف الأول أو الثاني أو التاسع أو .. ؟! ألا يجبُ على التلاميذ أن يتعلموا مُقررات معينة في اللغات والعلوم وغيرها؟!! ألا يجب أن يجتاز التلاميذ العام الدراسي سوياً وربما انتقلوا إلى المستويات العليا سوياً مع وجود الفارق الهائل بين المستويات ؟! ألا يكون من نصيب المعلم تدريس المئات من التلاميذ كل عام ؟! والإجابة عن الأسئلة ستقود القارئ إلى استنتاج الحالة البائسة التي يعيشها التعليم اليوم، وعاشَها من قبل، ولربما استمرت تلك الحالة في المستقبل في ظل جمود التفكير عن التطوير والتحسين، والتعايش السلبي مع الوضع البائس، والاغترار بالمظاهر البراقة والاحتفاء بالوهم !!
في “سان مارينو” وهي دولة صغيرةُ الحجم تحيطها إيطاليا من جميع الجهات تبلغ نسبة معرفة القراءة والكتابة بين أبنائها 98 %. توفر الحكومة في المرحلة الابتدائية مُدرسًا لكل ستة تلاميذ وهي أعلى نسبة في العالم، ويعتمد نظامها التعليمي على مناهج إيطالية، والتعليم الابتدائي فيها مُقسَّم على خمسة أعوام. وفي بولندا ، كل البالغين تقريباً يعرفون القراءة والكتابة إذْ تصل نسبة التعليم فيها إلى 99.8 % وفقاً لبيانات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) العام 2015.[1]. في هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن مراعاة الفروق الفردية، أما في وضع بلداننا التي يكون المعلم الواحد فيها مقابلاً لمئات المتعلمين، فالحديث عن مراعاة الفروق الفردية يعد ُّ بمثابة ذَرّ الرماد على العيون !
عَوْدٌ على بَدْء ، لقد كان حفظ أسماء بعض التلاميذ يُعد منجزاً كبيراً للمعلم، وأما معرفة خصائص المتعلمين ومراعاة الفروق الفردية فلا يوجد إلا في عالم الخيال أو في كتب كليات التربية والتعليم !! ولا نلوم المعلم عندما يأتي ولي أمر أحد الطلاب ويسأله عن مستوى نجله فيرتبك ولربما لا تسعفه ذاكرته في استدعاء صورة الطالب الذي سُئل عنه !! يا قوم، إن المعلم ليس رجلاً آلياً، أو حاسوباً، كما أنه لا يتعامل مع آلات تدارُ بضغطة زرّ أو بإصدار أمر. المعلم يتعامل مع مجموعات بشرية مختلفة- تماماً – في كل شيء ، والنظام التعليمي يُلزمه بتدريس مقررات معينة في فترة محددة وللجميع في آن واحد؛ ولذلك فإن مطالبتنا إياه بمراعاة الفروق الفردية عند تدريسه، في ضوء النظام التقليدي، يُعد أمراً محالاً وغير قابل للتنفيذ، وقد قيل: إذا أردتَ أن تُطاع فأْمُر بما يُستطاع، مع توصيتنا للمعلم أن يبذل قصارى جهده في تحقيق ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف الاستثنائية والواقع المُعاش.
في بيئة التعليم التقليدي، وفي ظلّ أعداد الطلاب الكبيرة في القاعات الدراسية، وإرهاق المعلمين بالتكاليف والمهام الإضافية والحصص الكثيرة، فإنه من غير المعقول أن يحدث تعلمٌ يراعي جميع الفروق الفردية، ومن الصعوبة بمكان أن يتعرف المعلم إلى طلابه، ناهيك عن أن يُنظم لهم تعليماً يراعي اختلافاتهم . وسيظل حديثنا عن الفروق الفردية عبارة عن تنظير وتأصيل ليس إلا، ولكننا على أمل أن يجد مكانه للتطبيق يوماً ما.
[1] https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/421087