التعليم، خداع الظاهر والاغترار بالمظاهر

خداع الظاهر والاغترار بالمظاهر
خداع الظاهر والاغترار بالمظاهر
د.عبدالقوي القدسي

نظَّمت إحدى المدارس مسابقة في القرآن الكريم، ورصدت جوائز متواضعة للفائزين في حفظ القرآن كاملاً وكذا حفظ باقي الفئات من العشرين جزءاً إلى فئة الجزء. احتفت المدرسة بهذا الإنجاز، السؤال: هل هؤلاء المتسابقون هم مخرجات هذه المدرسة المحترمة ؟!

إن ظاهرة السَّراب لا توجد في القِيعان المستوية – فحسْب –بل تحتل مساحة شاسعة في حياتنا، وفي التعليم مظاهر خادعة كثيرة أيضاً !! لقد تطرَّقتُ في مقال سابق لموضوع ” خداع الاختبارات”، وفي هذا المقال سأحاول أن أضع بين يدي القارئ الكريم صوراً أخرى من خداع الظاهر والاغترار بالمظاهر.

ما إن يصل البلاغ إلى إدارة المدرسة بأن مسؤولاً رفيعاً سيزور المدرسة، حتى تسارع إلى اتخاذ إجراءات استثنائية.. يجب أن تظهر الممرات نظيفة لمَّاعة، ويجب أن تختفي القمامة وقصاصات الورق من فناء المدرسة.. يجب أن يلبس مجموعة من الطلاب والطالبات لباساً أنيقاً، وأن يقفوا بنظام حتى يدخل المسؤول ملوّحاً بيده، ومبتهجاً بتلك المظاهر، وبالتلاميذ الذين يلهجون باسمه ويرحبون به بحركات فلكلورية وكلمات منظومة. لا أتحدث هنا عن الجناية في حق هؤلاء التلاميذ الأبرياء الذين يُراد لهم أن يَمتهنوا التّصفيق، وإنما أتحدَّثُ عن اغترار ذلك المسؤول بتلك المظاهر وخروجه مزهواً بما رأى أو سَمِع ..والأدهى والأمَرُّ هو غرور المدرسة بتلك المظاهر المصطنعة !! في لحظة النشوة تلك، يظن الجميع بأنهم قد بلغوا بالتعليم شأواً كبيراً، وبأنه ليس بالإمكان أكثر مما كان! والحقيقة على خلاف ذلك. إن الذي نشاهده مجرد مظاهر خادعة وصور مصطنعة ليس إلّا!

إن مظاهر المسؤولين، وهم يتحركون في لجان الاختبارات ويُقلّبون بين أيديهم بعض أوراق الأسئلة وتتحرك الكاميرات بين الزوايا لالتقاط تحركاتهم شيء يصيب المُتابع بالغثيان في ظل نظام تعليمي مهترئ وغياب حقيقيّ لأبسط مقوّمات العملية التعليمية والتربوية، أليسَ ما يحدث هو خداع للظاهر واغترار بالمظاهر؟!! في المجتمعات الإنسانية الحية، يُحال مثل هؤلاء المسؤولين إلى التحقيق بتهمة الإمعان في التضليل والاحتفاء بالسراب والتجهيل المتعمد للجيل!!

في حفلها السنوي، تقدم المدرسة قارئاً للقرآن ليس من مخرجاتها، ومتحدثاً لبِقاً باللغة العربية، ومتحدثاً آخر باللغة الإنجليزية لم تشارك يوماً في إعداده؛ لينخدعَ الناس بالأداء، ولاستدعاء الحَمد والثناءْ.. إنه خداع وتزييف وغش، وصدق الله حيث يقول واصفاً للبعص : ” يُحبون أن يُحمَدوا بما لم يَفْعلوا ..”. إن المدرسة تأخذ نصيبها من الخداع، سواء كانت حكومية أو أهلية، ولعل نصيب المدرسة الأهلية من الخداع أكبر من المدرسة الحكومية، فَسُوقُ المنافسة يقتضي المخادعة، وتستمر الحكاية!

ثقافة الخداع غزَت مجتمعاتنا حتى أُصيبَ البعض بعمَى الألوان، فلا يكادون يميزون بين الحقيقة والخيال. لماذا تَعْمَدُ بعض النساء إلى المبالغة في المكياج؟! ألا تريد من ذلك العمل لفت نظر الآخرين ونيل إعجابهم بما ليس – غالباً- فيهن ؟! إن كثيراً من النساء يُخفين قبحهن وراء ذلك المكياج، ولا عزاء للمخدوعين !! وهكذا تعمد بعض المؤسسات التعليمية إلى المبالغة في تزيين المباني والاهتمام بالمظهر، على حساب المعاني والجوهر.

يُحكى أن رجلاً اختلق خَبراً، وأراد أن يتسلَّى مع أهل قريته. أعلن الرجل للجميع بأن كميَّات من اللحم تُوزَّع بالمجان في سوق القرية، فأخذ كل واحد كيساً وهُرع إلى السوق سريعاً، وعندما رأى الرجل القوم يُهرَعون، أخذ هو أيضاً كِيسَه ولحق بهم ليأخذ نصيبه، ونسي – صديقنا – أن الموضوع برُمَّته كذبة اختلقها هو بنفسه ثم صدَّقها كما صدقها القوم..لقد قاَدَه العقل الجمعي إلى التصديق بكذبته ، ولربما يتباهى بذلك يومًا! ألا نصادف في حياتنا مجموعة من أمثال هذا الرجل؟! ألا يتفاخر الكثيرون بالإنجازات الوهمية، وتنشرح صدورهم عند التصفيقات الكاذبة، وينسون أمام الهالة الزائفة كل واجباتهم ومسؤولياتهم الحقيقية ؟!! ألا يُشبه هؤلاء قوماً ضلوا عن طريق الهداية، وفرحوا بذلك الضلال، واستمروا في سعيهم، فضلَّت أعمالهم وهم يُحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً؟!

يستطيع المعلم أن يخدع الموجِّه أو المشرف فيُظهِر خلاف الواقع، وتستطيع إدارة المدرسة أن ترسم مشهداً درامياً لدى الجهات العليا على اعتبار أنها دوماً في القمّة، وتستطيع تلك الجهات العليا أن تلتقط أدقَّ الصور فتُدبّجها في تقاريرها اليومية والسنوية، وتخدع من هو أعلى منها، وشعارها :” كل شيء تمام يا فندم” ، ويستطيع “الفندم” أن يقدم كل ذلك السراب كماء يروي به الشعب العطشان، لكن الشعب لا يجد من الماء شيئاً، وعوضاً عن ذلك، يجد جهلاً يحيط بكل شيء..إنه التعليم السّراب!!

التعليم يا سادة ليس مَبنىً مشيداً مُزيناً بأنواع الزخارف، وليس كُتباً مطبوعة بأجمل الألوان، وليس مجموعة من أجهزة الحاسوب أو السبورات الذكية.. التعليم نظام مكتمل الأركان..به تنهض الأمم، وبه تتعايش، وبالتعليم القويم يتمثل المجتمع بقيم الخير والتعاون وتُحفظ حقوق الإنسان. التعليم يحتاج في بلادنا إلى رجال صادقين يمتلكون رؤى واضحة للتطوير، وعزيمة قوية للتغيير، لا يبحثون عن التقاط الصور وتزيين القبيح، بل يبحثون في تجارب الأمم وينتقون أنجحها. التعليم بحاجة إلى مسؤولين أكفاء وأُمَناء..

error: المحتوى محمي !!
X