يُعرَّف علم النّفس التربوي على أنّه دراسةٌ وتفسيرٌ لسلوك الفرد وتحليله في المواضع التّربويّة؛ لضمان الوصول لفهمٍ صحيحٍ لعمليّة التّعلّم والتّعليم[1]، وعرّفه عددٌ من المختصين في مجال علم النّفس على أنّه فرعٌ من فروع علم النّفس يختصّ بدراسة سلوك المتعلم في المواقف التّربويّة المختلفة، ودراسة ردود الأفعال داخل الغرفة الصفيّة، كما يفيد في تزويد المعلمين بمعلومات ومبادئ وخبراتٍ نظريّةٍ وتطبيقيّةٍ مهمةٍ لفهم طريقة التعلّم والتعليم، وزيادة مستواها ومهاراتها[2] .
وَصْف سلوك المتعلم باستخذام أدوات قياس مناسبة وأنواع من منهجيات التقويم المتسمة بالصدق والثبات تساعد على فهم وتفسير سلوك المتعلم وميوله واكتشاف حاجاته النفسية، ومن خلال ملاحظة إيماءات الوجه وحركات الفرد اللفظية والانفعالية وردود الأفعال التي يُصدرها، والربط بينها لتفسير وفهم حالة الفرد وشعوره يمكن تنبؤ وتوقع سلوكه، ومن ثم توفير نشاطات وبرامج إثرائية وتشجيعية لتقوية الذكاء وتنشيط الدماغ، والضبط والتحكم في سلوك المتعلم .
تبدأ عمليتا التعلم والتعليم مع الأشهر الأولى للولادة، فالجهد الذي يبذه المتعلم لاكتساب المعارف والمهارات والخبرات هو عملية (التعلُّم)، وأما عملية التعليم فهي مرتبطة بالمجتمع وهي عملية تعديل وتوجيه إيجابي منظم للسلوك؛ لذلك فإن سلوكيات الفرد وخبراته المتراكمة تؤثر عليه في حياته كلها، ومن هنا فإن نظرية التحليل النفسي Psychoanalytic Theory المنسوبة للطبيب النمساوي فرويد والمتوفى سنة 1939 أَوْلَت اهتماماً كبيراً بالشخصية وكيفية التعامل معها. وفقاً للنظرية ، فإن هناك جملة من الأمور يجب العودة إليها للتعرف على الشخصية ومن ثم التعامل معها، ومن ذلك:
- الرجوع إلى خبرات الطفولة المبكرة من سن الطفولة إلى دخول المدرسة.
- معرفة الدوافع اللاشعورية (الأشياء التي تحرك السلوك بشكل لا إرادي.
- دراسة الإحباطات والصراعات كمحددات للشخصية.
- الطاقة النفسية مثل الثقة بالنفس وغيرها كمحرك أساسي للسلوك.
- الحيل والكارزميات لمواجهة الألم، مثل: ( الكبت –التبرير – النكوص – التسامي)
- دراسة المتغيرات الاجتماعية وتأثيرها على النفسية.
- التفاعلات مع الوالدين وتأثيرها على شخصية الطفل
وقد أشارت نظرية التحليل النفسي إلى مجموعة من الأدوات لقياس السلوك، ومن أهم تلك الأدوات:
- الملاحظة
- الاستبطان ( يتاح للشخص أن يحكي ويتحدث)
- التداعي الحر ( تترك للشخص أن يتحدث بكل ما يحب ويسترسل)
- التحليل المنطقي للذكريات
اشتهر فرويد بنظريات العقل واللاواعي أو اللاشعور، ويرى بأن العقل اللاواعي يتكون من الدفعات والرغبات والخبرات المكبوتة منذ الطفولة المبكرة وتؤثر في كل حياة الفرد في المستقبل..تظهر تلك الرغبات المكبوتة من خلال الهفوات والأحلام والأعراض المرضية. ولذك يرى فرويد بأن الخمس سنوات الأولى من حياة الفرد هي أهم مرحلة في حياته، وبالتالي فإن خبراتها تؤثر في مستقبل الفرد والمجتمع معاً.كما يرى بأن الشخصية مكونة من ثلاثة أنظمة هي: الهُو، والأنا، والأنا الأعلى، وأن الشخصية هي محصلة التفاعل بين هذه الأنظمة الثلاثة.
يُقصد بـ (الهو) أو النفس المشتهية طبيعتنا الأساسية التي لم يهذبها التعلم أو الحضارة، وهو مكوّن افتراضي يحتوي على الغرائز الحيوانية لدى الإنسان، والتي تُشكل رغبتنا الجامحة وهي تتطلب الإشباع فوراً دون الاعتبار لأيّ قواعد أو معايير. والمبدأ الذي يحكمه هو اللذة. ويستمد الهُو طاقته من الاحتياجات البدنية، مثل نقص الطعام أو الجنس الذي يتحول إلى طاقة نفسية ضاغطة.
(الأنا) كما وصفها فرويد هي شخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالاً بين الهو والأنا الأعلى، حيث تقبل بعض التصرفات من هذا وذاك، وتربطها بقيم المجتمع وقواعده، ومن الممكن للأنا أن تقوم بإشباع بعض الغرائز التي يطلبها الهُو، ولكن في صورة متحضرة يتقبلها المجتمع ولا يرفضها الأنا الأعلى..ويمثل (الأنا) الإدراك والتفكير والحكمة والملاءمة العقلية.
أكل الميْتة وفقاً للأنا العليا تصرف مرفوض، ولكنه وتبعاً لغريزة البقاء (الهو) فإنه تصرف طبيعي، وأما (الأنا) فإن هذا التصرف مقبول إذا كان بقدر لا يضر بالإنسان وإذا أمعنّا النظر في الشريعة الإسلامية، فإننا نجدها قد تعاملت بشكل واقعي فهي لا تجيز للمسلم أكل الميتة، ولكنها تبيح له ذلك وقت الضرورة وبقدر معين . قال تعالى: ” حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ……….ويأتي الاستثناء في نهاية الآية : ” فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ” [المائدة:3]، ويشرف الأنا على النشاط الإرادي للفرد.ويعتبر الأنا مركز الشعور إلا أن كثيرًا من عملياته توجد في ما قبل الشعور، وتظهر للشعور إذا اقتضى التفكير ذلك.ويوازن الأنا بين رغبات الهو والمعارضة من الأنا الأعلى والعالم الخارجي، وإذا فشل في ذلك أصابه القلق ولجأ إلى تخفيفه عن طريق الحيل الدفاعية التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً بإذن الله.
(الأنا الأعلى) كما وصفها فرويد هي شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظاً وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، مع البُعد الكامل عن جميع الأفعال الشهوانية أو الغرائزية ويمثل (الأنا الأعلى) الضمير، وهو يتكون مما يتعلمه الطفل من والديه ومدرسته والمجتمع من معايير أخلاقية.الأنا الأعلى مثالية، وتتجه إلى الكمال لا اللذة – وهذا يعارض الهو والأنا معاً.
إذا استطاعت (الأنا) الموازنة بين الهو والأنا الأعلى والواقع عاش الفرد متوافقًا، أما إذا تغلب الهو أو الأنا الأعلى على الشخصية أدى ذلك إلى اضطرابها.أنظمة الشخصية ليست مستقلة عن بعضها، ويمكن وصف (الهو) بأنها الجانب البيولوجي للشخصية، و(الأنا) بالجانب السيكولوجي للشخصية، و (الأنا الأعلى) بالجانب السوسيولوجي للشخصية.[3]
إلمام المربي أو المعلم بأنواع الشخصية وبما ينازع النفس البشرية من رغبات وغرائز وشهوات مهم جداً؛ ليتسنى له التعامل الفعال والملائم، كما إن إلمامه بخصائص المراحل العمرية يساعده على اتخاذ القرارات المناسبة إزاء السلوكيات المختلفة للمتعلمين ومعالجة جوانب الخلل فيها وفقاً للأخلاق العليا أو الأنا الأعلى بحسب فرويد.. فالطفل الذي يسلب زميله شيئأ إنما يقوم بما تمليه عليه غريزته (الهو)، وما على المعلم الذي يلاحظ ذلك إلا التعامل التربوي معه ويبيّن له خطأ ذلك السلوك وبأنه مخالف لقوانين المجتمع ومثله العليا، ووظيفة المعلم أو المربي ليست في إنهاء السلوك المخالف، وإنما بإقناع صاحب السلوك بخطئه، وتعزيز (الأنا) الدافعة للموازنة بين السلوك الممارَس والسلوك المرغوب، لاتخاذ القرار الصائب.
احتدَّ الخلاف ذات مرة بين معلم وأحد تلاميذه في المرحلة الثانوية، فبادَرَ المعلم تلميذه بصفعة شديدة، وعندما سُئل عن سبب ذلك أجاب بأنه فَعَل ذلك كخطوة استباقية؛ لخوفه من اعتداء التلميذ ؛ لأن التلميذ موصوف بالعدائية، والسؤال هنا : هل بهذا التصرف يكون المعلم قد عالجَ الموقف بشكل تربوي؟
هناك الكثير من السلوكيات التي تخالف قيَم المجتمع ومثله العليا تنشأ من طبيعة النفس البشرية وطبيعة الصراع القائم بسبب الصراع بين رغبات الإنسان وقوانين المجتمع ومثله العليا. وهنا يأتي دور المؤسسات التربوية في إحداث التوازن وتهيئة المتعلمين للحياة الاجتماعية التي تقوم على المشاركة والتعاون والعيش المشترك، ودراسة علم النفس وفهم الشخصية الإنسانية أمر في غاية الأهمة للمعلم والأستاذ الجامعي ولكل مربّ ومشتغل بالتعليم ومرتبط بالتعامل مع الإنسان.
[1] خالد الرقاص، مدخل إلى علم النفس التربوي، صفحة 3-11
[2] امجد قاسم (5/8/2012)، “تعريف علم النفس التربوي مجالاته و اهدافه”، آفاق علمية وتربوية، اطّلع عليه بتاريخ 17/8/2017. بتصرّف
[3] shorturl.at/fiCJ1