ميكانيزمات وأساليب الدفاع النفسي

ميكانيزمات وأساليب الدفاع النفسي
ميكانيزمات وأساليب الدفاع النفسي
           د.عبدالقوي القدسي

أكد سيجموند فرويد (1856-1939)  في كتابه (الأنا والهو) ، بأن عقل الإنسان مثلُ جبل الجليد،  الجزء الباطن فيه أكبر من الظاهر، ويرجع الفضل إلى فرويد[1] في اكتشاف أن جزءاً كبيراً من حياتنا العقلية لا شعوري، وأن لهذا الجزء اللاشعوري تأثيراً كبيراً على سلوكنا ومشاعرنا سواء في حياتنا السوية أو فيما نتعرض له من اضطرابات نفسية.

 

تحدثنا في مقال سابق عن الهُو والأنا والأنا العليا بحسب تقسيم سيجموند، وعرفنا بأن الإنسان في (الهو) اللاشعور لا يفكر إلا بإشباع غرائزه، وعادة ما يتمحور حول اللذة والألم، حيث يسعى لتحصيل اللذة ودفع الألم بأي طريقة من الطرق، و( الهو) لايؤمن بمنطق ولا يردعه رادع .. في مقابل ذلك يأتي (الأنا الأعلى) وفيها تبرز الأخلاق والقيم العليا، ويبرز دور الرقيب وتتعزز سلطة الدين، والأسرة، والمجتمع  والمدرسة ويظهر دور السلطة التي تُعَلّمه الصواب والخطأ وتعاقبه حال وقوعه في الخطأ، وأما الأنا (فهو أنت ) حالة متوسطة بين الحيوان المتمثل في (الهو) والملاك المتمثل في (الأنا الأعلى).

 

الإنسان لا يستطيع أن يعيش كمَلاك ولا حيوان، ولا بد من عمل التوازن ومن هنا إذا فشل الإنسان من إحداث التوازن فإن ذلك يتحوّل إلى كبْت ومرض وصراع نفسي … وفي تراثنا الإسلامي نجد حنظلة الأُسيدي – رضي الله عنه – قد وقع في مثل هذا الصراع النفسي حتى أنه اتهم نفسه بالنفاق، فقال للنبي (ص) – كما ورد في صحيح مسلم : نافقَ حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله ﷺ: وما ذاك؟ قال: يا رسول الله، نكون عندك تُذكّرُنا بالنار والجنة كأنّا رأي العين فإذا خرجْنا من عندك عافَسْنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا. فقال رسول الله ﷺ: “والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذّكْر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم وفي طرقكم، لكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات”. وفي هذا إشارة واضحة إلى الطبيعة البشرية المغايرة للطبيعة الملائكية أو الحيوانية معاً، والتي تسمو أحياناً حتى يشعر صاحبها بأنه في عداد الملائكة، وتنحط أحياناً حتى تحاكي الحياة البهائمية، والتوازن هو من يضع الإنسان في مكانه اللائق به. وبهذا يقول الله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ” ،الأعراف:201) .

 

في مقالنا هذا سنحاول تسليط الضوء على أساليب وطرق الدفاع النفسي التي يقوم بها الأشخاص بناء على بشريَّتهم، وتلك الوسائل والأساليب يستطيع المربون والمعلمون والأطباء النفسيون إدراكها والتعامل معها بناء على منهجية علمية تنطلق من المعرفة بطبيعة الإنسان.

 

أساليب وطرق الدفاع النفسي التي يقوم بها الشخص تحدث- غالباً – بطريقة تلقائية، ولكن يستطيع بعض الناس القيام بها بصورة معتدلة وناضجة، ومتناسبة مع الموقف، فيما يُبالغُ آخرون كثيراً فيها حتى تكون ظاهرة مرضية. وقد يقع الإنسان في الحيل الخداعية .

 

يُمكن تصنيف الخُدع التي قد يقع بها الإنسان إلى ثلاثة أنواع : حيل خداعية، حيل هروبية، وحيل استبدالية .وسنتناول في مقالنا هذا الحيل الخداعية (الكبْت، التبرير، والإسقاط) بشيء من التبسيط، وسنفرد مقالاً آخر – بإذن الله للحيل الهروبية والاستبدالية.

 

ميكانيزمات وأساليب الدفاع النفسييأتي الكبت في مقدمة الحيل الخداعية . ينسى الإنسان الكثير من الأحداث التي يمر بها منذ الطفولة، ينساها مع الأيام ويمحوها من العقل الواعي، لكنها تظل مُخزنة في اللاواعي، وتعبّر عن نفسها بين الحين والآخر في صورة أحلام أو زلَّات لسان أو سلوك .. عدم ثقة الشخص بالآخرين – لا شك – مرتبط بموقف مؤلم تعرّض له . لماذا يخاف البعض من القطط وينتفض خوفاً إذا  رأى حشرة ؟ هناك سيرة طفولة ومشاعر مكبوتة تُعبّر عن نفسها بهذه السلوكيات . ولذلك فمعالجة السلوك يجب أن يأخذ مداه، ويجب أن تمتد يد الطبيب والمعلم والمربي إلى علاج السبب وليس علاج الأعرض، وإلى التعامل مع مصدر الخوف أو القلق أو عدم الثقة أو الاكتئاب وليس مع التصرفات المنبثقة عنها.

 

ثاني حيلة من الحيل الخداعية هي التبرير، وفي هذه الحيلة يُبّرر الإنسان لنفسه جوانب الإخفاقات التي يتعرض لها أو الفشل الدراسي أو الخسارة في عمله الخاص أو ….وحتى يحمي نفسه من التوتر الناشيء عن النقد، ويخفف من حدَّة الإحباط التي يمر بها يلجأ إلى التبرير .. الفقير الذي لا يستطيع الخروج من دائرة الفقر يلجأ – عادة- إلى تبرير الفقر بأنه نعمة، وبأن المال يُطغي صاحبه، وبأن أهل الجنة هم المساكين ويحب أن يكون منهم، وقد يُصاب الشخص بما يُسمى بالقيود الذهبية والتي تُقيّد أصحاب المواهب والقدرات وتمنعهم من تأسيس أعمالهم الخاصة، فنجد الذكي وصاحب القدرات- مثلاً- يتعايش مع الراتب والميزات التي يحصل عليها، ويخاف من اتخاذ خطوة في اتجاه فتح عمل خاص به، ولرُبما يُفسّر ذلك بتجربة فاشلة مرّ بها أو خوفاً سيطر عليه من فقد المصلحة العاجلة المحدودة مقابل المصلحة الآجلة المنشودة، في حين أننا تجد أشخاصاً  أقل ذكاء لكنهم يمتلكون القدرة على المغامرة واتخاذ القرارات الحياتية المصيرية، ويحققون نجاحات كبيرة…  يقال في المثل اليمني :” “وعاد الذّكي يخطط للزواج ، وقد الغبي مُعِول ” أي لديه عيال …فالتبرير هو عبارة عن حيلة نفسية يسعى الشخص من خلالها إلى إرضاء النفس ليس إلّا !!

 

ميكانيزمات وأساليب الدفاع النفسيألا يصادفنا أشخاص ينسبون عيوبهم لآخرين ؟ هذا ما يُسمى بـ الإسقاط ، ويلجأ إليه البعض  ليحمي نفسه من القلق والشعور بالذنب. إننا نجد هذه الحيلة ماثلة أمامنا في الكذَّاب الذي يتهم الآخرين بالكذب أو الذي يُسيء الظن بالناس ويتهمهم بسوء الظن .  الزوج الخائن عادة ما يتهم زوجته بالخيانة، ونفس السلوك يصدر من الزوجة الخائنة تجاه زوجها. يقال في المثل رمتني بدائها وانسلت!

 

يُحكى أن رجلًا من العرب اسمه سعد بن زيد بن مناة ، تزوج امرأة شديدة الجمال تدعى رُهم بنت الخزرج  على ضرائر لها، وولدَت له ابناً  أسماه مالك بن سعد، وكانت ضرائرها شديدات الغيرة منها فُيساببنها قائلات :”يا عفلاء”، والعفل هو عيب يصيب المرأة بعد الولادة فتعاب به، فكانت رُهم تبكي من وقع الوصف عليها وتشتكي لأمها من أمر ضرائرها ومسبتهن لها ، فنصحتها أمها أن تبادرهن بنفس القول إذا ساببنها، فترقبت رُهم حتى اشتبكت معها إحداهن فقالت لها : “يا عفلاء” ، فضحكت الضُّرة، وقالت: “رمَتني بدائها وانسلت” ، أى عيرتني بما فيها وألقته بي[2].

 

معرفة أهل التربية والمنشغلين بتقويم السلوك الإنساني من المعلمين وأطباء النفس بالخداع والحيل النفسية أمرٌ في غاية الأهمية؛ فمن خلال هذه المعرفة يمكن تحديد الداء بدقة ومن ثم وصف الدواء، فالسلوك العدواني وأنواع الانحرافات في المجتمع تأتي نتيجة لاضطرابات سابقة، وحالات الكبْت التي يعيشها الشخص نتيجة لقيود المجتمع المبالغ فيها في بعض الأحيان، يتولد عنها ردود فعل عكسية في المستقبل، فالبرُكان الكامن يسارع للتعبير عن نفسه بانفجار ضخم يُدمر ما حوله عندما يجد أدنى فرصة أو ثغرة.

 

 

[1] كتاب الأنا والهو، ط4، ترجمة محمد عثمان نجاتي

[2] انظر كتاب مجمع الأمثال ص 286

error: المحتوى محمي !!
X