كان طالباً حريصاً ومجنهداً، لقد ذاكر مذاكرة جادة، وسهر الليل حتى قبيل الفجر، لم يستطع الاحتمال فاستسلم للنوم، نامَ بنية الاستيقاظ لأداءِ اختبارات الثانوية العامة.. لم ينتبه تلميذنا النجيب إلى الوقت، لقد استيقظ مذعوراً وهرع إلى المركز الاختباري، لكن – للأسف – فات الأوان وانتهى الوقت المحدد للاختبار.لم يتمالك الطالب نفسه فانهار، وخارت قُواه، وخرَّ مغشياً عليه، ودخل في إغماء لساعة من الزمن.
كتب الكثيرون حول رهاب الاختبارات، وقدَم آخرون نصائح تلو النصائح للتخلص من فوبيا ما يُسمى بالامتحانات. إننا نخطئ عندما نصف الدواء لمظهر المشكلة، ولا نعالج جوهرها، إن جوهر المشكلة يا سادة هي الاختبارات التقليدية ذاتها. لقد كتبتُ – أنا أيضاً- عن الاختبارات الكثير من المقالات، وسأظل أكتب وأحاضر وأقيم الدورات، وسأقف مع كل الأصوات المنادية إلى تحديث أنظمتنا التعليمية ومن ثم تحديث طرق القياس والتقويم ، ولن نمل ولن نتوقف!!
دعونا ننظر في مضمون الاختبارات ؟ إنها تحتوي على أسئلة كثيرة: موضوعية ومقالية: أحد النوعين أو كلاهما، وحتى يجيب المتعلم عن تلك الأسئلة ، يجب عليه أن يسترجع كل ما درَس، وأن يستظهر كل ما تعلَّمه في كل الكتب االدراسية المتخمة بالمعارف والمحشُوَّة بالكثير من التفاصيل المملَّة. وهذا يعني بأن الاختبارات تركز على المستوى الأدنى للمعرفة وهو (التذكر)، وللأسف، فإن الأسئلة المتعلقة بالفهم والتطبيق والتحليل والتركيب أيضاً تعتمد على استذكار ما هو مُضمَّن في المقررات الدراسية، وبذلك فإن الاختبار كله لا يتجاوز عتبة (التذكر) .
الاختبارات التقليدية النهائية، والتي تحشد لها المدارس والمؤسسات التعليمية جهودها، هي نوع من أنواع التقويم، ولكن المشكلة في اعتبارها هي الأداة الوحيدة لقياس تعلُّم الطالب، ناهيك والاتجاه الحديث اليوم يركز على قياس مخرجات التعلم، ويدفع في اتجاه اتخاذ أداة القياس المناسبة لتحقق مُخرج التعلم، وقد أشرت إلى أنواع عديدة من الاختبارات في مقالي بعنوان:” الاختبارات وسيلة أم غاية؟” والتي من أهمها: اختبارات الكتاب المفتوح، الاختبارات المنزلية، الاختبار التعاوني، المحافظ الطلابية، اختبارات الأداء، إعادة الاختبار أو الاختبار البديل، إضافة خيار الشرح، استخدام الملخصات كبدائل للاختبارات، الاختبارات الملائمة حاسوبياً، المشاريع ، وغيرها من أدوات التقويم.
لماذا يخاف أبناؤنا من الاختبارات؟ ولماذا ترتعد فرائص البعض منهم عندما يستلمون أوراق الاختبار؟ لماذا ينسى بعض الطلاب كل ما ذاكروه بمجرد دخول قاعة الاختبار؟ ما الحكمة من تشديد إجراءات الرقابة على قاعات الاختبارات؟ وما الذي نريده من الاختبارات على وجه التحديد؟ وأخيراً: لماذا يلجأ أبناؤنا إلى الغش؟
بطبيعة الحال، فإنني سأترك الإجابة لكم.
تسعى مناهج التعليم إلى إكساب المتعلمين معارف، ومهارات وتعمل على تنمية قدراتهم، ويضع مصممو المناهج نصب أعينهم مراعاة المستويات المعرفية الدنيا والعليا، ومن الأهمية بمكان أن تكون أدوات القياس شاملة لكل تلك المستويات، ولكن ما يحدث هو الاقتصار على قياس المستويات المعرفية الدنيا في حدها الأدنيا.وفي هذا الإطار يمكن أن أضع بين أيديكم الأسئلة التالية :
- هل يمكن أن يتم تقييم تقدم الطالب بواسطة بطاقة ملاحظة وسلالم تقدير في جوانب المهارات المعتمدة على الأداء العملي، بحيث تضمن متابعة الطالب في إنجاز المهمة بناء على الملاحظة، وليس بناء على الاختبار؟
- هل يمكن اعتماد منهجية الاختبارات الشفوية وإعطاء التغذية الراجعة للطالب في كل ما يتعلق بالتحقق من اكتساب مهارات القراءة أو التلاوة أو البلاغة أو التحدث وغيرها. وأما بالنسبة لمهارات الكتابة والإملاء، والخط فهذه تستدعي اختبارات الورقة والقلم، ولكن هل بالضرورة أن تكون ضمن اختبارات مركزية وتشديدات ؟
- إذا استطاع الطالب القيام بالأداء المطلوب كأداء الوضوء، والصلاة -على سبيل المثال – أمام المعلم/المعلمة، فهل هناك داعٍ لاختباره بالورقة والقلم وسؤاله عن تفصيلات الأحكام.
- هل يمكن أن تتحقق مخرجات تعلم العلوم عن طريق التكليف الفردي والجماعي للطلاب بإنجاز مشاريع تبدأ ببداية الفصل وتنتهي بانتهائه، ويتم التقييم لها بعد عرضها من التلاميذ وفي المقابل يتلفى التلاميذ تغذية راجعة؟
- في اختبار التذكر، هل يمكن اعتماد برامج ومسابقات تعمل على اختبار الطالب وتحفيز ذاكرته، ومن ثم يمكن أن يكرر الطالب المحاولة حتى يصل إلى الصواب فتترسخ المعلومة في ذهنه.
- وفي اختبار المستويات العليا من المعرفة كالتحليل والتقويم، أليس من المناسب متابعة الطالب من خلال تكاليف عملية بشكل منظم من بداية العام، ومتابعة تقدم الطالب، فإذا كان هناك داعٍ لاختبار نهائي فيتم اختبار الطالب بنصوص ليست مرتبطة بالكتاب، بل بقواعد التفكير والتحليل التي تعلمها الطالب واكتسبها أثناء مروره بالخبرات التعليمية؟
- لماذا يجب التزام التام بنظامي الاختبارات البنائية والتحصيلية النهائية ؟ ألا يمكن إلغاء ذلك واستخدام النوعين معاً أثناء العام الدراسي، ثم يتم بناء على ذلك اعتماد اختبار للمرحلة الأساسية وآخر للمرحلة الثانوية ويدخله الطالب بناء على استعداده، ويختار الوقت الزمني المناسب له بناء على الأوقات المتاحة، وهنا يمكن للطالب حتى وإن لم يلتحق بالمدرسة أن يقدم للاختبار مثله مثل المنتظمين.
إذا اتجه النظام التعليمي إلى قياس المهارات والمعارف والقدرات بناء على أنواع التقويم المختلفة، وتم إعادة النظر في الوزن النسبي للدرجات واعتماد أقل الدرجات للاختبارات النهائية، فإن الطالب وولي الأمر والمعلم سيحرصون على تحقيق تقدم الطالب في اكتساب المهارات، وليس في تحقيق الدرجات. وفقاً لذلك، فإن فكرة الرسوب والنجاح بناء على الاختبارات النهائية ستبدو فكرة سخيفة جداً. ولسائل أن يسأل: هل يمكن وفقاً لذلك تنظيم اختبارات تحصيلية شاملة نهاية مرحلة التعليم العام؟ فأقول: نعم ، ويجب أن يتاح الاختبار لكل طالب يرغب أن يخوضه حتى وإن لم يكن قد حصل على شهادة الثالث الثانوي، كا أشرت ، مثله مثل اختبارات التوفل أو الآيلتس وغيرها من الاختبارات الدولية المعتمدة.
نعود فنسأل: متى سنشهد اختفاء نظام الاختبارات التقليدي؟ الإجابة بالطبع سأتركها للمتابعين، ولكنني أودُّ تطمين الجميع بأن الكثير من دول العالم قد تركت الاختبارات التقليدية النمطية منذ زمَن، وابتكرت أنواعاً من التقويم الحديث، وأصبحت مسطرة القياس لديها مفصلة على مخرجات التعلم، وبذلك نهضت وتقدمت، وأبدع أبناؤها، واختفت مظاهر القلق والإحباط والغش.