د.عبدالقوي القدسي
الجمعة 16يوليو 2021
نستطيع توصيف الوضع التعليمي، ويمكن أن نصدر أحكاماً على نجاحه أو فشله، بناء على معايير أو افتراضات نؤمن بها أو نعتمدها، ولكن المشكلة تكمن في اتخاذ الخطوة التالية، وهي وصف الدواء الناجع للاختلالات. ما الفائدة المرجوة من دقة تشخيص الحالة المرضية إذا لم يتم وصف الدواء بناء على ذلك التشخيص؟! أما إذا أخطأنا التوصيف فإن ما يليه قد يكون كارثياً، فقد يفضي العلاج الخطأ إلى هلاك المريض.
يفرح أبناؤنا عند فراغهم من اختبارات نهاية العام الدراسي، ويكونون أشد سعادة وابتهاجاً عندما يستلمون شهادات نجاحهم، ونحن نشاركهم مشاعر السعادة أو السرور. ولنا أن نسأل: عندما ينتقل أبناؤنا إلى المستوى الأعلى: كم نسبة ما يحافظون عليه من علم اكتسبوه في المستوى الأدنى، وكم نسبة الأثر المستدام للتعليم؟ توجهت إلى مجموعة من التلاميذ بهذا السؤال: بين انتقالكم من مستوى إلى آخر ما يساوي شهرين أو ثلاثة أشهر – العطلة الصيفية – كم نسبة ما تحتفظون به من علم مُكتَسب ؟ كان معظم المستجيبين يضحكون، ولم أجِد من يضع أكثر من 20% وعلى استحياء، وللمعلمين أن يؤكدوا ذلك أو ينفونه…. إن التلاميذ يفقدون معظم ما تعلموه في المستويات الدنيا ، فما السبب أو الأسباب؟ هذا الموضوع يمكن أن يكون عنواناً جيداً لبحث علمي يقوم الباحث من خلاله بمتابعة القضية ويدرس أسبابها من زواياها المختلفة، لكننا هنا نضع القارئ أمام جملة من الأسباب المفترضة المبنية على الخبرة العملية في الميدان، ونفتح المجال أمامه لكتابة المزيد، وهذا كله يقود إلى توصيف مجموعة من بدائل الحل أو الإشارة إلى مقترحات علاجية للظاهرة.
لماذا يفقد الطلبة معظم ما اكتسبوه عند الانتقال من مستوى إلى آخر؟ هل القضية مرتبطة بالمتعلم ومدى جديته أو إهماله في التحصيل العلمي؟ أم إنها مرتبطة بإمكانات المؤسسات التعليمية القائمة؟ هل المشكلة مرتبطة بكفاءة المعلم أو وضوح الرؤية لدى القيادات المدرسية والتربوية؟ إم إن المشكلة ترتبط بالمناهج التعليمية وتصميمها؟ يبدو بأن الإجابة عن كل تلك التساؤلات يقودنا إلى الإلمام بخيوط المشكلة ويقودنا إلى تشخيصها بدقة.
دعونا نتاول أهم الجوانب المرتبطة بالمشكلة :
المناهج التعليمية : على الرغم من القفزات الهائلة في مجال تقنية المعلومات والتغير الملحوظ في متطلبات سوق العمل، والثورة المعرفية في مختلف جوانب الحياة إلا أن مناهجنا ماتزال مصممة لتلبية متطلبات قديمة، ومصممة للتعامل مع الحياة بنسختها القديمة، ولا تلبي – على الأغلب – متطلبات الجيل الحاضر والحياة المعاصرة، وهذا يبرر نفور الطلبة من الكتب المحشوة بمعلومات معرفية نظرية تقليدية بعيدة بشكل كبير عن واقع الحياة. نحن كثيراً ما نردد بعض العبارات من أمثال: أبناؤنا لم يعودوا قادرين على إجراء العمليات الحسابية يدوياً، وكتابتهم ضعيفة وخطوطهم ليست جميلة، ونسبة اقتناء أبنائنا للكتب ضئيلة ناهيك عن قراءتها.. كل ما سبق صحيح، والسؤال هنا: في ظل التكنولوجيا، أفلا يستطيع الطالب إجراء أعقد العمليات الحسابية بلمح البصر إلكترونيًا؟ أفلا يستطيع الطالب الكتابة باستخدام أفضل الخطوط بالكمبيوتر؟ أليس الطالب قادراً على القراءة من الإنترنت لعشرات الكتب وفي الوقت الذي يريد.. ما أريد قوله : هناك تغيُّر في الواقع ولا بد لمناهجنا أن تتواكب معه.. وليس من المعقول – على سبيل المثال – أن نلوم أبناءنا بأنهم لا يحسنون ركوب الخيل في زمن ما عاد لركوب الخيل أي ميزة أو اعتبار!
المعلم والمتعلم والمعرفة : العلاقة الديداكتيكية بين هذه الأطراف الثلاثة يجب أن تكون واضحة، فما علاقة المعلم بالمتعلم بالمعرفة ؟ هذه العلاقة يجب أن تصبح ميثاقاً يجب احترامه، وبمعنى أبسط: ما الذي يجب على الطالب تعلمه؟ وما الذي لا يجب عليه تعلمه ؟ وما الذي لا يليق به تعلمه؟ وعلاقة المعلم بالمعرفة يجب أن تكون أيضاً واضحة من حيث استيعابها واختيار الاستراتيجيات التدريسية المناسبة لإيصالها. وبالنسبة لعلاقة المعلم بالمتعلم: هل المتعلم مجرد وعاء يصب فيه المعلم المعرفة أم إنه كيان يتفاعل ويمكنه أن يتعلم وأن يعيد صياغة ما تعلمه بلغته الخاصة؟ الواقع يقول بأن المعلم -نادراً – ما يدرك طبيعة العلاقة الثلاثية بينه وبين المعرفة والمتعلم، ومن الطبيعي أن لا يراعي تلك العلاقة التعاقدية المفترضة، وهذا يعود إلى ضعف تأهيله وضعف إدراكه لأهمية دوره المرتبط بأدوار غيره في إطار المنهج التعليمي رأسياً وأفقياً. كثيراً ما تطرق آذان التلاميذ أسئلة استنكار لمعلميهم في المستويات العليا، وبالذات عندما يخفقون في الإجابة عن بعض الأسئلة: أين تعلمتم؟ يبدو بأنكم ما تعلمتم شيئاً من قبل؟ أو أنكم نجحتم بالدهفة (الترفيع)، وغيرها من أسئلة التوبيخ والاستنكار والتي في مجملها تعني بأن الطالب فقد المعلومات التي يجب أن يكون قد امتلكها في المستويات الدراسية الدنيا.
على اعتبار أن أهم عنصر مرتبط مباشرة بالطالب والمعلم والمعرفة هو (المنهج الدراسي بمكوناته المختلفة) فهذا يعني بأن إعادة صياغته أصبح واجباً بحيث يكون التركيز عند إ‘ادة صياغنها على:
- استيعاب الجديد في مجال العلوم المختلفة.
- تلبية متطلبات السوق المحلية والإقليمية والعالمية.
- تحويل المنهج إلى مهارات ومتابعة اكتساب الطلبة لها.
- تغيير آليات التقويم بحيث تعكس حقيقة اكتساب المتعلمين للخبرات التعليمية.
- إعادة صياغة العلاقة بين المعلم والمتعلم والمعرفة وتحديد الأدوار بدقة.
- التأهيل المستمر للمعلم وإشراكه في التخطيط والتنفيذ والتقويم للعملية التعليمية.
أختتم مقالي هذا بالمثل الصيني القائل: “أسمع وأنسى”، “أرى وأتذكر”، “أعمل وأفهم” . وبحسب دراسات علمية فالتلاميذ يتعلمون 10% مما يرونه، 20% مما يسمعونه، و30% مما يتم تطبيقه عملياً،و 50% من المواد التعليمية التي تمت مناقشتها، 70% مما تمت ممارسته، و 90% مما تم تدريسه أي قام المتعلم بتدريسه وإعادة تقديمه بطريقته. ولعل التلاميذ يفقدون ما يتعلمونه؛ لأن معظم ما يتعلمونه عبارة عن معارف سماعية أو بصرية ولا ترقى إلى درجة التطبيق أو الممارسة العملية وإعادة إنتاج المعرفة.